المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة القصص الواقعية في تحدي المستحيل ... المغامر المنسي ... الفصل الأخير


المهدي عبيد
17-12-2008, 13:26
عرفنا في الفصل السابق قدرة علي في مسيرته الجبارة عبر الصحراء الكبرى و كيف أنه أفلت من الجميع حتى وصل الى التراب الجزائري , و كان قد عرف في رحلته الطويلة في الصحراء ماذا تخفي هذه الصحراء في الحقيقة , و احتاط جدا للأمر لأنه شخص وحيد و بسيط و كذرة رمل صغيرة أمام كل إشكاليات الصحراء , و افلت و أفلت الى كانت الصدفة التي فتحت عليه ابواب سموم حارقة , ماذا وقع بالضبط ؟, لم تعترضه حيوانات مفترسة , أو عصابات تهريب و لكنه .... ببساطة وقع في قبضة الأمن الجزائري , و ذلك أن راع من الرعاة ممن اعترضهم في طريقه و طبق عليه قانونه و بعد ذلك ارشده لأقرب طريق صحراوي فرعي ,هو ارشده و لكنه أرشد عليه فرقة أمنية متنقلة كانت مارة بالصدفة من هناك فقبض عليه .
كان يقف بطوله الغريب و شكله الأغرب أمام رئيس المخفر الذي بقي يحدق فيه طويلا مستغربا في هذا الآدمي الذي يقف أمامه هل هو من هذا العالم أم من عالم آخر , أجلسه أمامه على كرسي و امره بأن يحدثه بقصته , فروى علي القصة من بدايتها حتى وصوله الى هذا المكان و كانت قصة طويلة جدا أنصت اليها المسؤول بصبر كبير و بعد أن انتهى , كلمه برفق شديد قائلا : إسمع يا بنى , لقد تعبنا بما فيه الكفاية , و لم يعد هنالك مجال للصبر , ما تحكيه أتذكر أنني قرأته في صغري بالكامل في سلسلة الف ليلة و ليلة , لا فائدة , لا تتعبنا و تتعب نفسك , هات الرواية الأصلية , أو بالأحرى من أنت بالضبط ؟ و ماذا تفعل هنا ؟ , كانت قسمات الرئيس تتغير رويدا رويدا , أخبره علي مقسما أن ما حكاه هو الحقيقة , و صاح فيه المسؤول : ماذا تظننا يا هذا ؟ أحمرة في هذا المكان , بغالا بدون عقول , من يصدق روايتك ؟ طالب تونسي في النيجر ليدرس , رحلة للعمل من موريطانيا الى جزر الموريس , ما تحكيه لا اصدقه حتى في الأحلام , رجال البوليزاريو نحن اعلم بهم , مقاتلي الحركات الإسلامية المتشددة يسكنون الكهوف في الجبال و لا يمرون بالصحراء , رجال العصابات لا يسيرون هكذا و بهذا الشكل , إذا لم تكن من كل هؤلاء فمن تمثل بالضبط ؟؟؟ , و دام التحقيق ساعات طويلة , و توقف ليستؤنف في الغد و بنفس الكلام و الوتيرة , أحس علي أنه بري من كل التهم التي بدأت تحيط به , و كلها تهم مثل الجبل على كاهله , و تشبث بنفس الرواية , و تشبث المسؤول بنفس الكلام , و اخيرا , وجه له الرئيس الكلام ببطئ شديد قائلا : للأسف يا بني , أنت اخترت فتحمل مسؤولية اختيارك , كنت اريدك ان تريح نفسك و تريحنا , و تجنبنا ما لا نريد و لكنك صممت على مراوغاتك التي لن تجد غبيا يستوعبها ....و بهذا الكلام تغير كل شيء و انقلبت الصورة رأسا على عقب , , تعرض علي لما لا يمكن تصوره من الإهانات و الضرب و التعذيب , و صمد لأنه أحس أن نجاته في صموده , و بقي شهرا كاملا في سجن المركز الحدودي و كانت فترة يكره على الحديث عنها تفصيلا ,فما تكرم به عليه الإخوة لا يمكن ان يعاد وصفه , و أخيرا اطلق سراحه بعد اتصالات كبيرة أجريت , اختلطت فيها عديد الأوراق , بين العاطفي و المخابراتي , و صموده الغريب , و يبرر علي كل ما وقع له , فما تمر به الجزائر وقتها يبرر حتى القتل و ليس التعذيب , فإذا كنا نحن أصدقاءه نصدق روايته بصعوبة بالغة فما بالك برجل أمن في صراع مستمر مع كل ما ذكرنا ...
لم يحلق شعر رأسه و لا لحيته و لم يغير ثيابه , بل زاد شكله قباحة ليصبح غريبا جدا قد يفزع أكبر الشجعان , و واصل الطريق مسترشدا بنصائح رئيس المخفر الذي أخبره أن له أكثر من 20 سنة في الخدمة و لم تعترضه حالة كحالته , و برر له كل ما تعرض له , و حكى له قصته الطويلة مع رفاق الصحراء , في شكل اعتذارات لما لاقاه منهم , أما هو فلم يعد من النوع الذي تغريه الإعتذارات و لا يهتم كثيرا بما يسمع , فما شاهده طيلة الرحلة لا يصفه الكلام ,,,
أخذ الطريق الصعب مجددا , و لديه إحساس بقرب انتهاء المحنة , و وقع في قبضة دورية أمنية أخرى و أعيد نفس الشريط الذي تعرض له , و بقي نصف شهر في هذا المخفر , مدة أكثر من طويلة لوقوع اتصالات بين المخفرين و السلط المحلية و الوطنية , ليعرفوا أنه لا يكذب في ما يرويه و واصل الطريق الذي كاد يقترب من نهايته , و مرة من المرات وجد نفسه وجها لوجه مع مجموعة كبيرة من الأشخاص , أحاطت به بسرعة كبيرة , و الكل يستغرب هذا الشكل المتحرك أمامهم , لأول مرة يجدون أنفسهم أمام الغول الذي يخيفون به أبناءهم او رجل الكهوف في الروايات المشهورة , حكى لهم قصته بما فيها من مآسي, صدقوه و أحسوا بعذابه , و لأول مرة يجد حنانا من الآخرين منذ اشهر طويلة , كان الجميع من قرية قريبة من الحدود الجزائرية التونسية , و لهم علاقات ودية و تجارية و عائلية كبيرة مع عائلات تونسية , و تلك من مآسي الإستعمار , فعندما رسمت الحدود الإستعمارية , كانت هنالك عائلات كثيرة , بالمئات فرقها الحد الفاصل , فتجد مسكن الأب في جهة و الأبناء في الدولة المجاورة , أخذه أحدهم معه و قام بكل متطلبات نظافته , و لأول مرة من شهور يحس أنه إنسان , و ليس حيوانا طريدا شريدا , أصبحت حكايته أشهر حكاية في هذه القرية الطيبة التي أضافته و قامت بكل ما يطلبه ,بقي معهم لمدة ثلاثة ايام , و في بداية ليلة حالكة السواد , ايقظه صاحب البيت و خرج معه ليجد رجلين آخرين في الإنتظار , و أخبروه بأن موعد رجوعه الى بيته قد حل , و سارت المجموعة في الظلام الدامس ضمن مسيرة دامت الليل بطوله , , و قرب الفجر وصلوا الى طريق معبد , أخبره صاحبه أن هذا الطريق يؤدي الى القيروان , فسر مع السلامة , تعانق علي مع أخوة الصدفة و الذين أحبوه لله و في الله , ودعوه و اختفوا في الظلام , كان الحظ معه هذه المرة , فسخر الله له سيارة , أوقفها صاحبها باشارة واحدة من علي و ركب و لم ينتشر نور الصباح الا و كان علي يطرق باب منزل اسرته .
الى هنا تنتهي رحلة علي الطويلة , رحلة المستحيل التي نفذها لعبور الصحراء الكبرى , الرحلة التي قام بها دون اختيار , كانت رحلة يجب عبور كثبانها المتلاطمة و عبرها بنجاح , و لم يمض أسبوع إلا و التقينا جميعا في مدينة المنستير حيث ندرس , و كان عناقا طويلا باكيا بين علي و البشير الذي افترق عنه في النيجر , و كانت ليلة حكى فيها علي هذه القصة التي رويتها لكم حتى انتشر ضوء اليوم التالي و كلنا يستغرب حكايته , بعد يوم كان علي و البشير أمام عميد كلية العلوم يطلبان منه السماح لهما بمواصلة الدراسة , و كان القانون واضحا في عدم السماح بالدراسة لمن رسب سنتين في نفس المستوى الدراسي , و بعد أن استمع العميد الى قصة الرحلة , أقسم أن يواصلا الدراسة فالقانون لا يمنع بالالتحاق كطالب "حر" اي يجتاز الامتحانات فقط دون حضور الدروس , العميد وعدهما بالسماح لهما بالدراسة كأي طالب عادي , و فعلا التحقا بالدروس و انهيا العام بنجاح ,
و أبى القدر الا اتمام القصة التي تطرقت اليها سابقا , كان لعلي ابن عم بتونس العاصمة , كان يزوره مرة أو مرتين في الشهر , في آخر السنة الدراسية و في انتظار النتيجة النهائية , كانت هنالك أيام فراغ , قصد فيها على ابن عمه , عندما نزل في المحطة , تذكر مريم , يا الله ماذا فعلت تلك المسكينة , و قد مرت شهور طويلة على آخر لقاء , امتطى سيارة أجرة في اتجاه بنزرت , كانت مريم قد أمدته باسم والدها المحامي المعروف , لم يضع وقتا طويلا في البحث عنه فقد كان مشهورا فعلا , فبالكاد ركب أول تاكسي و أخبره وجهته حتى كان يقف أمام المكتب مباشرة , لم يجد المحامي , فاخبرته موظفة المكتب أن المحامي رجع للتو الى المنزل , فأخبرها أنه محتاج اليه للضرورة القصوى , فأمدته بالعنوان , و كان يراجع الكلام الذي سوف يلقيه على الأب ليطمئن على ابنته .
طرق الباب , و انتظر فتحه , و أخيرا فتح بعد مدة ليست بالقصيرة و كاد يصعق , كانت مريم بشحمها و لحمها تقف أمامه , و كانت بهتتها أشد من بهتته , كان تحديا آخرا منها لتفلت من براثن الأدغال , و باختصار شديد أخبرته بما فعلت و كان وفق ما قدرت و خمنت , و كانت امرأة أخرى بالكاد عرفها و وأخبرته أنها استطاعت كسب عطف والدها و حكت لهم عن وقوفهما معها , و رحب بعلي الفتى المخلص لإبنتهم , ...
نجح علي , و في بداية السنة الأخرى لم نجده معنا في الكلية , أخبرنا قريب له من القيروان أنه يعمل للسفر الى أمريكا سواء بالقانون أو تسللا ,
و لم ندر بعدها هل نجح في ذلك أم لم ينجح , لأننا لم نشاهده منذ آخر لقاء , عندما روى لنا آخر فصل من قصة رحلة تحدي المستحيل الخاصة بالتقائه بمريم .
قد يكون نجح و قد يكون فشل , قد يكون الآن في أمريكا أو في القيروان و قد لا يكون في أي منهما
و قد لا يكون من أهالي هذه الأرض اصلا
و مهما يكن فقد كانت قصته غريبة مثل غرابته و اقر صراحة اني لو سمعتها او قرأتها لما صدقتها و لكني اعرف صاحبها كما اعرف نفسي , و قصته طويلة جدا لان روايتها لنا تواصلت لليلة كاملة لم نحس بها بالنوم لتشويقها الذي لم يبق في ذاكرتي منها سوى القليل
و لماذا سميته المغامر المنسي , لان هذه القصة لو وقعت لاروبي لشاهدناها في فلم سينمائي او كتاب مطبوع و لكن هنا بقيت مجهولة كصاحبها
فمن قام بها شخص فقير و معدم و لا يسعى لا للشهرة و لا للبهرج الإعلامي الخادع
و الأكيد ان هنالك العشرات أمثاله الذين تحدوا هذا المستحيل و قهروه
و بقيت قصصهم منسية لأنهم لا يملكون سوى سواعدهم

كانت رحلة مغامرة نجح فيها و كسب منها الثقة بنفسه ....و هذا ما كان يحتاج اليه فعلا

أشكر لكم متابعة القصة و ارجو انكم واصلتم قراءتها للآخر
ماذا بقي ؟لا شيء تقريبا ... سوى الدعوة ليساعدني الله لرواية القصة الثالثة و الأخيرة من هذه السلسة
قصة عثمان في تحد آخر مختلف كليا عما ذكر
دمتم بخير